الثلاثاء، 25 أبريل 2017

حب الوطن

حب الوطن أثمن ما في الوجود هو الوطن، الذي يضحي الإنسان بحياته دفاعاً عن ترابه المقدس، لأنه يستمد منه انتمائه وكيانه الإنساني؛ وأصعب شيء على النفس البشرية أن تكتب عن شيء ضاع منها، وضع العديد من الإحتمالات عن ملامح مكان وجوده في زمان معين اعتماداً على الذاكرة، والذاكرة مهما حاول الإنسان الاعتماد على الدقة والأمانة تبقى خداعة. فالذاكرة أحيانا لا تقول الأشياء التي تعيها، والمكان في حالات كثيرة ليس حيزاً جغرافياً فقط، فهو أيضاً البشر في زمن معين لتكشف العلاقة الجدلية بين عناصر متعددة، متشابكة ومتفاعلة، وهي في حركة دائمة وتغير مستمر، وكيفية النظر إليها من أي زاوية وفي أي وقت وبأية عواطف وأن تبحث عمن تحب، وكيف إذا كان ذلك هو الوطن؟، حين تكون بعيداً أو مبعداً عنه الذي تمتع الإنسان بالنظر والعيش بين مناظره الطبيعية الخلابة، وسمائه، وغيومه، شمسه، قمره، سهوله، طيوره، أشجاره، وزهوره مباركة لهذا الجمال، وكما يقول الآباء جوهرة ناندر؛ فهو لا يقتصر على طيب هوائه ومائه ولا يتوقف يوماً واحداً في السنة، ولا عن روعة الليل فيه. في الوطن ثمره اللذيذ وأهله البسطاء، وكرمهم الوفير، وما أدراك إذا كان مسقط الرأس الذي ترعرع فيه وتربى فوق ترابه وارتوى وتنفس من هوائه وتدثر بسمائه وذاق حلاوة السعادة ليصبح رمزاً لكل ما مضى، وقد طرد منه ولا يسمح له بالعودة ثانية؛ وما عليه إلا أن يفتش عنه في دفاتر الزمن وأزقة الذاكرة، أو ممن تبقوا من الذين عاصروه لإظهار هويته الوطنية والتاريخية، بهدف إحياء الجذور للحيلولة دون طمسها أو استبدالها. بذلك تبقى كافة مدن الوطن وقراها وشوارعها، تاريخاً وحضارة ونضالاً وتراثاً مهماً في عقول كل ساكنيه جسداً وروحاً؛ تتجسد معالمها وتضاريسها ومبانيها وطبيعتها في العيون لكل الأجيال القادمة، وبذكراها العطرة التي تهب بر الأثير ببيارات برتقالها وبساتين فواكهها وأزهار ربيعها التي يندر وجودها في أماكن أخرى كي نسجلها للأجيال القادمة ليتشرف ترابها فيزداد التصاقاً بها، حتى يكون حافزا لها على أن يحثهم ويحفزهم ليعملو للعودة إلى هذا الوطن. إن تدوين التاريخ شيء مهم في الكتابة عن البلد الذي يحبه، فأنت تقوم بتحويل الأحجاز والأزهار والناس والماء والهواء إلى كلمات، لكن الكلمات نفسها مهما كانت متقنة لرسم اللوحات التي تتخيلها من أمكنة وأزمنة مضت أو ما زالت، فهي لا تتعدى أن تكون ظلالاً باهتة مهما وعت الذاكرة لحياة كانت أغنى وأكثر جمالاً وكثافة، ومليئة بالتفاصيل التي يصعب استعادتها مرة أخرى في ذاكرة الأجيال الجديدة، إلا أن عظمة الأوطان تقاس بغظمة تاريخها الذي تصنعه العقول، وعرق أبنائه وسواعدهم. وأخيرا إن من لا يملك انتماءً للأرض التي ربى عليها آباؤه وأجداده وهو نفسه، لا يملك الحق لأن يحمل جنسيتها ويأكل من خيراتها ويعيش على أرضها وبين أهلها وينال من رزقها. الوطن الوطن هو المكان الذي ولدت فيه، وعشت في كنفه، وكبرت وترعرعت على أرضه وتحت سمائه، وأكلت من خيراته وشربت من مياهه، وتنفّست هواءه، واحتميت في أحضانه، فالوطن هو الأم التي ترعانا ونرعاها، وهو الأسرة التي ننعم بدفئها، فلا معنى للأسرة دون الوطن، فهو الأمن والسكينة والحرية، وهو الانتماء، والوفاء، والتضحية، والفداء. الوطن هو أقرب الأماكن إلى قلبي، ففيه أهلي، وأصدقائي. وحبي لوطني يدفعني إلى الجدّ والاجتهاد، والحرص على طلب العلم والسعي لآجله؛ كي أصبح يوماً ما شاباً نافعاً أخدم وطني وأنفعه، وأرد إليه بعض أفضاله علي، وقد قال الشاعر في حب الوطن: وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي إن الوطن هو أغلى شيء في حياتنا لذا يجب علينا أن نحميه وندافع عنه ضد الأخطار والأعداء، ونكون دائماً على أتم استعداد للتضحية من أجله، وأن نفديه بأرواحنا ودمائنا في أي وقت، وقد قال الشاعر: إن رمى الدهر سهامه أتقيها بفؤادي علينا أن نُنمّي وطننا في وقت السلم ونسعى إلى رفعته والارتقاء به في كل المجالات، ويكون ذلك بأن نجتهد ونهتم بأعمالنا مهما كانت صغيرة أو كبيرة ، فكل عمل يسهم في تنمية وتقدم الوطن، وقد قال الشاعر: بدم الأحرار سأرويه وبماضي العزم سأبنيه وأشيده وطناً نضراً وأقدمه لابني حراً فيصون حماه ويفديه بعزيمة ليث هجام ومن واجب الدولة الاهتمام بالشّباب، والاهتمام بتعليمهم وبصحتهم، فالشباب الأصحاء الأقوياء الواعدون هم من يبنون الوطن، وقد قال الشاعر عنهم: يا شباب العالم في الوادي الأمين أشرق الصبح فهزوا النائمين كما يحب على كل أب وأم أن يغرسا حب الوطن في أبنائهم منذ الصغر، وأن يحثّوهم على التعلم، ويحرصوا على أن يكون أبناءهم أقوياء وأصحّاء كي ينفعوا وطنهم فهم أمل الوطن. فليسعى كل منا للجد والاجتهاد في دروسنا كي نكبر ونحقق أحلامنا وننهض بوطننا. الوطن وأهميّته الوطن، يا لها من كلمة صغيرة في عدد حروفها، ما أكبرها وأعظمها وأشملها في المعاني، فكلمة الوطن تعني البيت والحضن الدافيء، تعني المأوى والملجأ، تعني فسحة اللعب واللهو والمرتع، وكذلك تعني مكان السعادة والراحة. الوطن له حقوق عديدة، له علينا أن نحفظ ماءه الذي طالما ارتوينا به، والحفاظ على أرضه التي طالما تعبنا ونحن نلعب فوقها ونمشي عليها، تلك الأرض التي وفّرت لنا غذاءنا، والتي لطالما سحرتنا بجمالها الخلاب، وخضرتها الرائعة التي لهونا في ربوعها، يجب علينا أن نحمي سماءها التي لطالما لعبنا تحتها، وتنشقنا هواءها، يجب علينا أن نعمل على حمايته، والحفاظ على جماله، فعندما نتغنى ونسحر بجماله، يجب علينا أن نعمل لنحفظ على الجمال، بل لنزيده أيضًا. بعد كل ما سبق ذكره فإنّه من الواجب علينا -كردٍ لهذا الجميل الكبير- أن نفديه بأرواحنا، أن نجود بدمائنا رخيصة لأجله، أن نقدم كل غالٍ ونفيس من أجل الحفاظ على حريته واستقراره، وأن نمنع كل تحدٍ يعوق دون رخائه، حتى لو اضّطهدت في وطنك، حتى وإن ظُلمت في وطنك، يبقى هو الحضن الدافئ الذي يضمك، يقول في ذلك الشاعر: "بلادي وإن جارت عليّ عزيزة". وعندما نذكر الوطن وأهمية حمايته، فإنّا نذكر الشباب أصل حضارته، وعمود تقدمه، وطاقته الدائمة المتدفقة الدافعة به في مصاف الدول التي يحسب لها حساب، ومن الدول التي تسمع كلمتهم، لذلك فمن واجب الدول صناعة جيل شاب متعلم ومثقف ومتفهم، لذلك فمن واجب المسؤولين أن يخرّجوا جيلًا قياديًا قادر في المستقبل أن يأخذ بالوطن إلى الأمام، يجب سن المناهج الهادفة، والأنشطة المفيدة، وأن توفر لهم مخيمات تنمي قدراتهم الإبداعية وتشجعهم، وتفرغ الطاقات الهادرة بطريقة إيجابية سليمة. الإنسان بلا وطن، هو بلا هوية، بلا ماضٍ أو مستقبل، فهو غير موجود فعليًا، ولبناء الوطن الرائع، لابد من بناء لبناته الأساسية بسلامة، واللبنة الأساسية لبناء كل مجتمع هي الأسرة، فإذا كانت الأسرة سليمة نتج عن ذلك وطن سليم، والعكس بالعكس، لذا فإنّه ومن واجب الوالدين أن يغرسا في نفوس أبنائهم ومنذ الصغر حب الوطن وتقديره، أنّه يتوجب عليهم أن يجدوا ويجتهدوا من أجل وطنهم الذي ولدوا وترعرعوا فيه، وشربوا من مائه، وعاشوا تحت سمائه، وفوق أرضه، وأن يتركوا لهم بصمة في هذا الوطن تدل عليهم، فالوطن لا ينسى أبناءه، ولا ينسى أسماء العظماء منهم. حب الأوطان من الإيمان لاشك أن حب الوطن من الأمور الفطرية التي جُبِل الإنسان عليها، فليس غريباً أبداً أن يُحب الإنسان وطنه الذي نشأ على أرضه، وشبَّ على ثراه، وترعرع بين جنباته، كما أنه ليس غريباً أن يشعر الإنسان بالحنين الصادق لوطنه عندما يُغادره إلى مكانٍ آخر، فما ذلك إلا دليلٌ على قوة الارتباط وصدق الانتماء؟ وحتى يتحقق حب الوطن عند الإنسان لا بُد من تحقق صدق الانتماء إلى الدين أولاً، ثم الوطن ثانياً؛ إذ إن تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف تحُث الإنسان على حب الوطن؛ ولعل خير دليلٍ على ذلك ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقف يُخاطب مكة المكرمة مودّعاً لها وهي وطنه الذي أُخرج منه، فقد روي عن عبد الله بن عباسٍ رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: (ما أطيبكِ من بلد، وأحبَّكِ إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيركِ). رواه الترمذي، 3926 . ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُعلم البشرية، يُحب وطنه لما قال هذا القول الذي لو أدرك كلُ إنسانٍ مسلمٍ معناه لرأينا حب الوطن يتجلّى في أجمل صوره وأصدق معانيه، ولأصبح الوطن لفظاً تحبه القلوب، وتهواه الأفئدة، وتتحرك لذكره المشاعر. وإذا كان الإنسان يتأثّر بالبيئة التي ولد فيها، ونشأ على ترابها، وعاش من خيراتها، فإن لهذه البيئة عليه حقوقاً وواجباتٍ كثيرةً تتمثل في حقوق الأُخوّة، وحقوق الجوار، وحقوق القرابة، وغيرها من الحقوق الأُخرى التي على الإنسان في أي زمانٍ ومكان أن يُراعيها وأن يؤديها على الوجه المطلوب؛ وفاءً وحباً منه لوطنه. وإذا كانت حكمة الله تعالى قد قضت أن يُستخلف الإنسان في هذه الأرض ليعمرها على هدى وبصيرة، وأن يستمتع بما فيها من الطيبات والزينة، لاسيما أنها مُسخرةٌ له بكل ما فيها من خيراتٍ ومعطيات؛ فإن حُب الإنسان لوطنه، وحرصه على المحافظة عليه واغتنام خيراته، إنما هو تحقيقٌ لمعنى الاستخلاف الذي قال فيه سبحانه وتعالى: (هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) سورة هود، 61 . ويمكن القول إن دور التربية الإسلامية يتمثلُ في تنمية الشعور بحب الوطن عند الإنسان في ما يأتي: تربية الإنسان على استشعار ما للوطن من أفضالٍ سابقةٍ ولاحقة عليه -بعد فضل الله سبحانه وتعالى- منذ نعومة أظفاره، ومن ثمّ تربيته على رد الجميل، ومجازاة الإحسان بالإحسان، لاسيما أن تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف تحث على ذلك وترشد إليه كما في قوله تعالى: (هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) سورة الرحمن، 60 . الحرص على مدّ جسور المحبة والمودة مع أبناء الوطن في أي مكانٍ منه، لإيجاد جوٍ من التآلف والتآخي والتآزر بين أعضائه، الذين يمثلون في مجموعهم جسداً واحداً مُتماسكاً في مواجهة الظروف المختلفة. غرس حب الانتماء الإيجابي للوطن، وتوضيح معنى ذلك الحب، وبيان كيفيته المُثلى من خلال مختلف المؤسسات التربوية في المجتمع كالبيت، والمدرسة، والمسجد، والنادي، ومكان العمل، وعبر وسائل الإعلام المختلفة مقروءةً أو مسموعةً أو مرئية. العمل على أن تكون حياة الإنسان بخاصة والمجتمع بعامة كريمةً على أرض الوطن، ولا يُمكن تحقيق ذلك إلا عندما يُدرك كل فردٍ فيه ما عليه من الواجبات فيقوم بها خير قيام. تربية أبناء الوطن على تقدير خيرات الوطن ومعطياته والمحافظة على مرافقه ومُكتسباته، التي من حق الجميع أن ينعُم بها وأن يتمتع بحظه منها كاملاً غير منقوص. الإسهام الفاعل والإيجابي في كل ما من شأنه خدمة الوطن ورفعته، سواءٌ كان ذلك الإسهام قولياً أو عملياً أو فكرياً، وفي أي مجالٍ أو ميدان؛ لأن ذلك واجب الجميع، وهو أمرٌ يعود عليهم بالنفع والفائدة على المستوى الفردي والاجتماعي . التصدّي لكل أمر يترتب عليه الإخلال بأمن وسلامة الوطن، والعمل على رد ذلك بمختلف الوسائل والإمكانات الممكنة والمُتاحة. الدفاع عن الوطن عند الحاجة إلى ذلك بالقول أو العمل. من الطبيعي أن أي إنسان حرّ يكون محٌباً لوطنه، مخلصاً له، غيوراً عليه بغض النظر عن ديانته أو جنسيته، وهذه صفة حسنة عند بني البشر جميعهم؛ فالوطن هو مصدر عزّة وفخر لكل فرد ينتمي إليه، ولابد للجميع أن يسعوا ويجدوا لرفع اسم الوطن عالياً خفّاقاً. وهذه الصفة الحسنة (حب الوطن) نجدها عند كل انسان وفي كل الاديان فالكل يسعى لأجل وطنه، لكن الغريب والعجيب والمؤسف أيضاً أن نجد من هم ينتمون إلى ديننا الإسلامي ويتشدّقون به وهم يشوّهون أوطانهم، بل يُخيّل إليهم أنهم كارهون لأوطانهم أشدّ الكره، فهم وإن كانوا ينتقدون السلبيات أحياناً، وهذا شيء جميل، تجدهم أحياناً كثيرة وفي أوقات صعبة يسعون بكل طاقتهم وقدراتهم إلى تزييف الواقع، أو إنكار الجميل، أو تشويهه، ويتعمّدون تشويه الوطن؛ فهم لا يرون الجميل أبداً لأنهم خالون من الجمال، وكما قيل: (كن جميلاً ترى الوجود جميلاً)، ولأنهم يلبسون نظارات سوداء قاتمة أو بالأصح هم بلا بصيرة فلا يرون إلا القبيح وإن كان صغيراً، فهم يهوّلونه وإن كان غيرموجود، يصنعونه بنظّاراتهم ويلفتون الأنظار إليه، وذلك أشد وقعاً علينا من أن يأتي من غيرهم، في حين من المفروض في هذا الوقت أن يكونوا سنداً ودرعاً لأوطانهم. وأخيراً ما نرجوه منهم أن يروا الجميل فيشيدوا به، أو أن يصمتوا، فذلك أحسن، وأن يضعوا مصلحة الوطن أولاً قبل أي غاية، فمتى لهؤلاء أن يحترموا أوطانهم؟ وهل فيهم غيرة على أوطانهم؟ فإن لم تكن غيرتهم على أوطانهم اليوم فمتى تكون لا ندري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق